بشار الشعراني برونزي
عدد الرسائل : 12 العمر : 51 Localisation : سلمية تاريخ التسجيل : 13/12/2009
| موضوع: رحيل ديوجين معاصر للكاتب سليمان فاضل الشيخ ياسين 23/2/2010, 6:53 am | |
|
" رحيل ديوجين معاصر " (1)
في مكان ما على مفترق الطرقٍ في مدينة نمت ، غابت أطرافها في عمق الشجر الشامخ الكثيف !!. ثمـّة وقف طفلٌ وطفلة , اشتركت سيماؤهما باصفرارٍٍ وشحوبٍ فاستوقفتهما الذكرى هنا في المكان الذي اعتادا أن يقفا فيه يملأه رجلُ علم ٍ , مكان ٍ أحاطت به الأبنية العالية كسوار في معصم ٍ وتشعـبت الطرق منه وإليه . قالت الطفلة لأخيها : لماذا وجمت الطريقُ وخفـّت حركة السير وقد أظلم النهار؟ فوا أسفي المرير لانكسار عنفوان النهار ووجومه المفاجئ وكأننا في ليل ٍ قال أخوها : أجل الويح لنا!! ألم تري ماذا حلّ بالمئذنة .. ؟ مئذنة العلم المباركة، هاهي ذي أمامك وقد انطفأت أنوارها الخضر وران الظلام على الحيّ المقدّس وعوى الخفـّاش وحوّم فوق الرؤوس ..!! أجل أجل ..!! يا لخوفي الشديد من أشباح الجهل وأشواك تتحدّث تعلـّمنا لنجهل, أين ذاك المعلم الذي كان يجود علينا بإجاباته السديدة عن أسئلتنا التي كانت شبه ملغزة فيسهلـَها لنا ؟ ها قد خلا المكان منه أين هو ذاك ؟ أين هو ذاك ؟ المكان خال ... !! . أجاب الأخ .. ومن ثمّ , تساءل شابٌ عن ها ذاك الديدبان المتمهـّل البئيس الذي يملأ الفراغ , يتأبط جعبته الثقافية وقد وشـّح جيوب ثوبهِ المتواضع ِ بكتبٍ وصحفٍ ومجلاتٍ متنوعةٍ وعلى اختلاف اللغات كان يتحرّك على عكازهِ , يتحرّك كسلحفاةٍ أسطوريةٍِ ينشر الضوء ويملأ أذهان النشء يبوح له نورا ً متدفقا ً من مخزونه الثقافي ولعلّ المشوار أنهكه والسفر أضناه ففاءَ، فلاذ َ إلى كهفه المسحور برميله الديوجيني المتحرّك حسب لحظته العابرة ليستجمّ من عبث الحياة وسوء المصير . وربَّ مكتهل ٍ في المملكة، تحدث عنه، وعن الدماثة الخلقية، وعن الحِواراتِ الهادفةِ، وعن قضايا الناسِ وهموماتها وعن التطلّع المستقبلي وغيره من مشكلاتنا المعاصرة ...!! وقال عجوزٌُ معمـّرٌ شهد ميلاد المدينة : يا للجمال كلـّه والحسن !. ويومَ كان شابا كان حسن السيماء ،والهيئة، والنضار، ولكن بعد إصابته بمرض ٍ عضالٍ متراخ جمـّره الوجع، فتخثـّر النضار، فتصوّح، فتكســّد، إلا أنه ما ذلّ وأردف شيخنا ينثر كلماته للريح الممعنة في الخراب وكأني بريح الموت الآن نعته له فارتجل كلمات وكان المعمــّر ذا شاعرية فقال :
ياأيـّها الراحل إلى التراب ! تأهـّب.. ها أنت ذا من جديد تتعطـّر، وتلبس ثوبك الجديد، يخصّ النوم الأبدي ّ ذا اللون الأبيض و الأخضر;لا يخصّ أبناء الزائلة . بعد ساعات قليلة تحضنك أمك الأرضُ دفينا ً – على بقايا دفين ٍِِ – عزيزا ً عليها وفقيدا ً للبلدة التي تشعر بفراغك ولا تشعر .. البلدة التي أخذت، تنوح الآن طيورُِِِ الأسى على أبراجها وفي حاناتِ علمها المبلسم وخمارات دأبها المتواصل للخير والعطاء .. تتناوب كؤوس الفاجعة، طيورٌ أرعبتها خفافيش الليل ! طيورٌ أجنحتها كسيرة، ملـّت التكرار والانتظار الدهريين, وكم من قوافل وقوافل يحدثها، هذا السيفُ المتسلط العتيق القاهر الجبار الموت .! على مسرح الحياة الخادع , ولكن أمك الأرض، وبعد فترة الضيافة شهورا ً من ضوءٍِ تتركك للفناء راغبة في ذلك لتتفجر، وهو التقليد الطبعي عندها , بل الحتمي ويصيب جثمانك العفن وينهش منك الدود ويفنى معك.!! في ظلمة يكرهها الإنسان وتقترب من ذرات الأرض وبقايا من عظامك، متماهيا ،ً تدور خالدا ،ً معها حول شمس ٍ سوداء ويكون قد نبت على ضريحك العشب الغريب يجلـّله الوقار ويومئ بالفراغ بافترار متثائب ٍ أصفر واجم ٍ , وتبقى أمك الأرض ..هكذا يلفـّها خوفٌ أزلي من ثقب أسود مداهم ٍ وينتهي كلّ شيء إلى المأساة الكبرى لتبحث أمك الأرض عن قبر لها في مقبرة الكواكب المنتحرة !!!. وأردف المعمـّر وهو في واقعه التعب. ثمّ يقول : أخي ولدي حبيبي لا تملّ الحديث وتابع يا غصناً من شجرة كريمة !!!. كنت تميس بعنفوان الفكر متواضعا ً.! يا غصنا ً دمثا ً، صبرت غضون عمرك المديد على آلام ٍ جسدية، خثـّرتها ظروف أنت عرفتها.! سبرتها، وتماهيت معها، وقد استوعبها منك دماغٌُ عبقري فذٌ ذو إرادة جبارة قوية رفض اليأس والاستسلام و به تثقفت، ونهلت من أصناف المعارف، وكنت متضلـّعا ً منها , ترجمت، كتبت، وكنت تسخر من أوجاع الجهل بابتسامتك الصفراء ورفدت المكتبة العربية بعطاءاتك . يا أيـّها الراحل إلى التراب لتكتمل رحلة الوهم الغامضة !!. أجل .. وكأني بالمدينة ناسَ نبضها، فابتأس إذ افتقدت خير فقيد، وخير حفيد لبناة المدينة الكرام الأولين . وايم الله أنت أصبر الصابرين ..!!!. لقد امتصصت لهاث أو جذوة ألم لمفارقة حياتية مضطربة عشتها فلعقت فيها الصابّ المبرّح والألم المطلق. لكن كلامك كان أنينا ً مرتلا ً على قيثارة من الألم الصامت حينا ً، والمكتوب حينا ً آخر، وفي أسلوبك لمسة دفينة فيها حرارة صديقة مشبوبة لصيقة . لوّن أسلوبك تضلـّعك من اللغة الفرنسية إحدى اللغات الحيـــــــّة
نعم .. كنت شعبيا ً كوالدك المعروف موئل ِ الحب والبساطة والعفوية والكرم . كنت العقل المتنوّر في كنفه !! كنت واحة، متحركة، ظليلة، لمن يعرف نكهتها، ويشتفّ مذاقها، فكان يستريح في ظلــّها . وعلى الرغم مما كنت عليه من فاقــة مثل الآخرين، فكنت الأغنى، لأنّ روحك شامخة ٌ شبـِعة من موروث خصبٍ ووثابة ٌ محاطة ٌُ بعمل الخير، فلا شك من أنها سترفل في نعيم الخلد !!! حيث فضاء الملكوت .
أما مائدتك العلمية التاريخية الأدبية، فملأى بأصناف الغذاءات، ومن هنا كانت تغفّ البراغيث عليها و يهوّم بعض الذباب الأزرق المناوب عليها فيعكر صفو المبدعين الذين طاب لهم غذاؤها ..!!. كنت كريما ً - يا فقيدنا - ومائدتك سخية للجميع، إن هي إلا ضريبة المثقفين الأوفياء الذين يدفعونها للآخر بسخاء وأنت أحدهم . وكمعمـّر مثلي سمعت نبأ الوفاة، فقدمتُها كلمات وفاءً للفقيد، وأحببت أن أنثرها في وجه الأثير .. إن هي إلا ترجيعة حزن ٍ أو آهة دفعها صدري ليتوسع كرْبي ولملئ الفراغ فراغ المكدودين المسافرين إلى الأبد عن ديار ٍِعشنا معا ً فيها وكنا يومها شبابا ً .
قلّ لي أخي .. ولدي .. حفيدي .. هل الصراخ أو النحيب يملآن الفراغ؟ ومتى كانت الدموع تشبع العطشى ؟!!. إلا أنّ قوافل النسيان فلابدّ تأتي، تدبّ، لتمسح كلّ شيء ٍِِ ولن يُذْكر، أو يبقى بعد الموت سوى الخط ِ , واللون , واللحن , والفنّ الجميل ِ . ثمّ توقف الصوتُ، وغاب المعمـّر، كأنه طيفٌُ ابتلعه سراب في المملكة .
إلى روح الأخ اسماعيل الأمير سليمان رحمهالله . سلمية في 6 / 7 / 2008
أ- سليمان فاضل الشيخ ياسين
(1) ديوجين : فيلسوف إغريقي ؛ مسكنه برميل يؤمن باللحظة العابرة , معلم الإسكندر المقدوني .
(2) الديدبان : الحارس اليقظ
| |
|
حيدر محمود حيدر ذهبي
عدد الرسائل : 320 تاريخ التسجيل : 13/11/2008
| موضوع: ردّ على موضوع ردّ على موضوع(رحيل ديوجين معاصر).. 24/2/2010, 6:51 am | |
| | |
|