حلم منصف النهار
على ضفاف ساقية تمور بالمياه، ومن بعد كد وكدح قبل بزوغ قرص الشمس بساعات، وحتى اعتلت الشمس صهوة السماء
استيقظ صالح من إغفاءة قصيرة، على صدى حلم، ليتحسس الألم الذي لحق بعنقه جراء توسده مجرفته .
حلم في منامه كما يرى النائمون
بان سربا من حمام ابيض طار بعيدا، بعد أن أرعبه صياد بطلقة مجنونة خرقاء من بندقيته، تناقلت أصداء صوتها السهول والجبال والوديان .
وبعد هنيهة سقطت إلى جواره حمامة بيضاء مصبوغة بدمها .
من صميم قلبه أراد أن ينقذها .
ضمها لصدره كي يقطع النزيف من صدرها وجناحها.
لكنها سرعان ما خبت، ولوت عنقها على زنده وهي تتمتم : سأنتظر كي ألقاك تحت سدرة في جنة الخلود
مرعب كان حلمه .
وسرعان ما حملت نسمة صيف غربية لسمعه من بعيد صوت ينادي في الفضاء، فامتزج إحساسه بلطف النسمات بقشعريرة سرت في جسده، وتسارعت دقات قلبه .
ترحموا على المرحومة فلانة أم فلان لقد تغمدها الله بواسع رحمته ولكم من بعدها طول البقاء
وعندما أكمل المنادي عباراته ، اغرورقت عينا صالح بالدموع ،وانسكبت بغزارة على خديه .
لان المقصودة بالنعوة كانت أمه
فلم قصير
كان صالح يوزع القهوة على الضيوف في مكتب معلمه ، عندما انفرطت حبات سبحته الثمينة ، وتوزعت قافزة هاربة من ظلم اليد التي تعتصرها ، لتستقر في زوايا المكتب، و تحت الكراسي التي يجلس عليها المتملقون ، الذين يتبارون في إلقاء مدائحهم في قصائد صميدعية ، على مسامع المعلم ، ولي نعمتهم وشريكهم في الانجازات ،
هاله منظرهم وخروجهم عن وقارهم وهم يسارعون إلى الانبطاح أرضا ، ويتناطحون ليحظى الشاطر منهم بحبة من سبحة المعلم ، ليقدمها له مع ابتسامة عريضة تنم عن فرح بتحقيق انجاز كبير لم يسبقه إليه غيره من الحضور.
كان المنظر مضحكا بالنسبة إلى صالح وهو يشاهدهم في حركاتهم الاكروباتيه، لاهثين وراء حبات السبحة وعند الفوز بإحداها يقدمونها للأغا الجديد مع عبارة : تفضل سيدي هاي حبة .
جمع صالح فناجين القهوة التي انتهى لتوه من توزيعها دون أن يشرب منها احد وهو يتمتم في سره :
هيك ضيوف ما بيستاهلو القهوة .
سارع صالح إلى البوفيه وهو يشكر ربه على عجائب خلقه قائلا في سره : شوفير صينية ولا هالمنظر .
أحلام متأخرة
كان يرى صورتها كلما نظر إلى المرآة ، تتجلى له بأبهى حللها ، الوجه ذات اللون الحنطي الذي استعار استدارته ولونه من أرغفة أمه التي كانت تخبزها على التنور .
غدائر الشعر الأسود الفاحم تنهمر كشلالات تغازل النهد والأكتاف .
إيقونة الأنف تزين استدارة الوجه ، الفم ( المكلتم ) يحاكي بلونه ثمار شجرة الكرز التي تتوسط الحاكورة الخلفية لبيتهم ، الحاكورة التي تعفر بترابها ونام تحت شجيراتها واختزن أحلى ذكريات عمره فيها .
مغناجة ، دلوعة ، هيفاء، مياسة القد ذات ابتسامة تحفر عميقا في القلب .
كانت دائما في خياله كلوحة ربيعية تمور بشتى الألوان ،أبدعها آذار ونيسان في السهول والوهاد والجبال المحيطة بالقرية ، معطرة بآلاف براميل الروائح الذكية التي تسكبها أزاهير وورود الربيع .
لكن هذه اللوحة ما تلبث أن تختفي ، وتذوي حالما يستفيق من حلمه ، لتطالعه صورة وجهه التي حفر الزمن فيها خطوطا غائرة ، وخط الشيب ما تبقى من شعر على رأسه .
ينقلب ربيعه إلى خريف جفت أوراق أشجاره، وتساقطت متهالكة على الأرض، تلفظ أنفاسها الأخيرة
يلوح له سرب طيور اسود مهاجر في الأفق البعيد ، وشمس تغرب بتسارع بطيء.
يحدق بالتجاعيد البادية للعيان في رقبته ، ينغرس خنجر الزمن عميقا في جسده .
يتفرس باللون الأصفر والأسود والنخر الذي غزا أسنانه .
تهاجمه أسئلة حادة كمشرط جراح :
أين أنا منها ؟
أين هي مني ؟
ويصمت صمت القبور ،لأنه يعرف الأجوبة على كل الأسئلة التي تروم في خاطره .
لا يدري كيف اقتحمت حياته متأخرا، وهو يعلم جيدا أنها المستحيل بالنسبة له ، وانه لم يكن واردا يوما من الأيام على لائحة اهتماماتها .
- هل هي مجردة ردة فعل ، ومحاولة فاشلة لإعادة سيناريو شبابه الغارب بعد أن أحيل على التقاعد .
- أو قد يكون السبب اهتمامها به في المرة الأخيرة التي زارهم فيها .
-لا ربما يكون ذلك من باب اللياقة باعتباره صديق قديم للعائلة
هواجس وأوهام تدور في مخيلته كلما نظر في المرآة.
ينغرس خنجر الوقت مرة أخرى في جسده
يترك مرآته فجأة ويخرج من إطار الخيال ليصطدم بالواقع .
يسرع إلى الصيدلية المنزلية يتناول أخر وصفة طبية .
حبة قبل الأكل ، حبة بعد الأكل ، حبة أثناء الطعام ، ثلاث مرات يوميا .