قيمة الوقت
الاهتمام بالوقت , هو اهتمام بالحياة بتفاصيلها ,وهو الإرادة على استثمارها استثماراً فاعلاً ,لكي نحياها بكل ما فيها من جمال وضوء,علينا أن نشعر بنبض اللحظة كما نشعر بنبض القلب, فهو أثمن من لآلئ البحار , وأعظم من كنوز الدنيا.وقيمة الوقت ,تأتي من قيمة ما ننتجه فيه,ما نبنيه فيه ,قيمته تأتي من معدل الفائدة التي نجنيها في واحدة الزمن .لا يجوز أن تشرق الشمس وتغرب دون أن تضيف لفكرك فكرة ,معلومة جديدة ,تعدل رأيك في موضوع. لا يجوز ألا تتغير معرفياً مع مرور الوقت ,أنت المحكوم بالزوال العضوي,عليك أن تفهم أن الفكر لا يزول ,المعرفة التي نشقى لها ,هي زهرة جلجامش ,هي الضالة المنشودة لرحلة الخلود.
الاهتمام بالوقت ,ضبط توازن أبقاعاته ,هو ضبط لإيقاع الحياة ,وإعطاء كل شيء حقه من الوقت ,الذات, الأهل , الأصدقاء ,يضمن طريقاً للسعادة,قد أضعناه وأضعنا معه جزءاً من الحياة.
والفلسفة الإغريقية هذه المدللة المتمردة الشقية ,تكلمت عن استغلال الوقت , وقت الفراغ الذي بالطبع كان محصوراً في الطبقة النبيلة في المجتمع الإغريقي ودعوا إلى استغلاله في التأمل العقلي والموسيقى وقد أكد أرسطو (367-322)ق.م على دور الأنشطة الموسيقية في تنمية العقل وملكة التفكير ولمحورية التأمل العقلي في بناء شخصية الإنسان وتحقيق إنسانيته.
كذلك أهتم قدماء المصريين واليونانيين والرومانيين بالوقت ,لحاجاتهم الملحة له ,فكانت الساعة الشمسية والمائية والرملية,ومن ثم ظهرت في القرن الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين الساعة الميكانيكية (اليدوية والمنبه) , ومع انقضاء عصر الإقطاع في أوروبا الذي كان الإنسان فيه مسخراً للعمل ,لا يتمتع بشيء من حقوقه الإنسانية, ومع مع بداية حركة مارتن لوثر (1483-1546)م ,وفي أعقاب الثورة الصناعية بدأت تتبلور ظاهرة وقت الفراغ لدى الإنسان المعاصر وتم اختراع ساعة البندول في القرن السابع عشر,والكهربائية في القرن التاسع عشر,ثم الساعة الكوارتز في القرن العشرين,والساعة الذرية الأدق في العالم.
أصدقائي معلوم أن الوقت نسبي وله وجوه عدة ,زمن طبيعي تجري في رحابه الظواهر الطبيعية ,وزمن بيولوجي يتعلق بذات الإنسان ككائن عضوي ,يتكون من خلايا حية, وزمن نفسي داخلي يتعلق بحياتنا النفسية ومشاعرنا و كذلك هنالك زمن تاريخي لا يمكن نسيانه.
في عصرنا الآن تسيد ثورة عارمة في ميدان الزمن ,تنبئ بان الحرب القادمة حرب ضد الوقت,تعلن بوادرها ,بكون احترام الوقت أصبح مقياساً لتقدم الأمة.فاستنفر منذ زمان علماء الاجتماع لقضية ,قيمة الوقت,واقروا أن بداية الحضارة هي باحترام أبناءها للوقت كقيمة حضارية.
الإنسان في العصر الحالي ,واقع لا محالة ,في دوامة من الضياع ,تتجاذبه قوى عدة ,الضعيفة منها ,قوية عليه ,لهذا نحن في أزمة , العقل العربي عموما في أزمة , الزمن داخلنا متلاطم مضطرب ,لا نحن نقوى على الدخول مسرح العصر , لأننا اسلنا كثيرا من دماء الوقت , ولا نحن قادرون على فهم ما يجري ,لنمتع أنفسنا بالمشاهدة ,وندع قدرنا لله وحده, ولا يمكن أن نستعيد الماضي ,الذي يتوق إليه الكثيرون ممن لم يستطيعوا التكيف مع معطيات زمن الحداثة وما بعد الحاثة, على هذا علينا استغلال الزمن في استغلال الزمن , كأفراد أولاً,لأن الأمم تنهض بصحوة أفرادها و إصرارهم على أن يكون للوقت قيمة , وقيمة حقيقية ,فننظم أوقاتنا ونوزعها جيدا بين العمل والدراسة والمعرفة ,نجبر أنفسنا على أداء أعمالنا في وقتها تماما (لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد). من غير الممكن الوقوف الآن, وأن تقف مكانك يعني أن الآخر يتقدم عليك. قال السفير الروسي في ألمانيا عام 1994م كنا في الإتحاد السوفيتي ننظر نحن الموجودون في أعلى الكرة الأرضية إلى الغرب المتقدم والشرق المتخلف (دول الشرق الأقصى) و أما الآن فننظر إلى الغرب المتقدم والشرق المتقدم ونحن مازلنا ننظر. استثمر الغرب الوقت فتقدموا وتخلفنا .
أخيراً : يحكى أنه عندما أهدى الخليفة هارون الرشيد الملك شارلمان الساعة الدقاقة أفزعته وحاشيته وظنوا بداخلها الشيطان ,فضحك هارون الرشيد وبكينا نحن, لقد كان بداخلها الشيطان فعلاً.