الطريق إلى الله

موضوع: الطريق إلى الله 29/5/2011, 11:16 am

(1)
هب نسيم خفيف, فراح يداعب ملابس إحرامنا, فارتفعت حناجرنا بالدعاء والتهليل..وكانت السيقان العارية تبدو مشدودة وسط زحمة الطائفين حول البيت الحرام..انطلقت وكأني بُعثت مخلوقاً جديداً, يرنو إلى مغفرة رب العزة , فكم تاقت نفسي إلى هذه الزيارة المباركة! ...ولكنها إرادة الله (عز وجل) تتم حين يشاء.
كنت أطوف برفقة أستاذي الجامعي والذي صرنا- فيما بعد- زملاء عمل بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر الشريف ... أخذت اللحظات تمر في سعادة غامرة وروحانية عالية , ونحن نسمع خليطاً من الدعاء والبكاء في تلك الأثناء ,وكانت الشمس تطبع علي الأفق قبلة طويلة دامية , وسرب من حمام الحما يطوف معنا في وداعة وسكينة .وكأني لأول مرة أدقق في ملامح أستاذي (السبعيني) , فقد كان بياض وجهه الناصع يختلط مع صلعته في وجه أشعة الشمس الذهبية , فهمس إلىّ وقد اشرأب عنقه مشيرأ بيده- المعروقة – إلى رجل قريباً منا ..كانت يداه معلقتان بأستار الكعبة ..وفمه قد أرغى و أزبد .. كان فارعاً ..تنزلق نظارته حتى تصل إلى أرنبة أنفه, وفمه في لون العقيق الأحمر يرتعش, وعروق رقبته تظهر واضحة الملامح من أثر الصياح.
*دكتور صفوت .. أتسمع صياح هذا الرجل ؟.. من أي بلد هذا يا تري؟!
وكما أصابت الدهشة أستاذي, أصابتني ولكن بشدة .. فقد كان الرجل يردد صوتاً أشبه بالصراخ.
يفوق جميع الأصوات بدرجات :-
((أبا..أبا..أبا......)).
كان بجواره رجل يبدو أنه صديق ومرافق له , فهو يقف خلفه وكأنه يسند ظهره ؛ خشية أن يقع .. فساقني الفضول , واقتربت منه..أحسست أنه مصري الجنسية من سحنة وجهه..
فأشرت-بدون مقدمة تعارف - إلى الرجل المعلق بأستار الكعبة..وقبل أن أنطق ببنت شفة , نظر إلىّ صديقه مبتسماً , تزين وجههُ عينان صافيتان , وعلي خديه غمازتان تكمّلان جمال البراءة التي توسمتما فيه..وما إن وقعت عيناه عليّ عن قرب , حتي حني رأسه في أدب ثم عاد وخاطبني في هدوء جم , وهو يوزع صنوف النظرات علي صديقه من رأسه لأخمص قدميه:-
*انه صديقي يا سيدي ... ونحن زملاء في مصلحة واحدة ,ضمن بعثة الحج المصرية....
ُصمّ سمعي ..وتجمد عند كلمة (المصرية) , فعبثت الأفكار بين دهاليز رأسي ..كان الزحام قد ازداد حدة ..تخترقه أشعة السماء الملائكية.. تمتمت في سزاجة مع نفسي:-
* (هل تغيرت اللغة العربية لتُختصر في حروف كلمة" أبا..أبا ..؟ أم هذا دعاء أنا حديث العهد به؟ ..أم هي طقوس جديدة ينتهجها بعض المصريين بعفو الخاطر بجهل منهم ؟!).
نفضت الفكرة من رأسي؛ لأنها غير منطقية ..وعندما طال شرودي..وتلقلقت هواجسي بين جوانبي..شعرت بيد المصري تربت عليّ في حنو ..فأحسست بز فزفة
الرياح تزداد ..كنت علي وشك أن أسبل جفنيّ؛ لاُصغي إلى لحن سماوي أخّاذ لمن يبتهل بالدعاء خلفي وأمامي .. وانقضت اللحظة ..
وبصوت رخيم مس أذنيّ مساً رقيقا قال الرجل وهو يربت علي كتفيً:-
*لا تشغل بالك يا سيدي ..فهذا المتعلق بأستار الكعبة ..والمردد:-(( أبا..أبا...)
انه أخرس!! !!
وهنا سقط فكي وتجمد.. فأطلت النظر إلى هذا الأخرس ..كان ظهره عارياً .. وشعره الطويل يتهدل خلفه.. سار في كلماته وهو نشوان لا يدري ما حوله.
(2)
نشر الليل رواقه علي خيام (عرفة)..في تلك الأثناء, كان الفجر يلقي وشاحاً رمادياً علي الجبال حولنا..وتكاثفت السُحب في السماء وتلبدت شأنها كل شتاء..وقتها كان أستاذي يرقد جواري يغط في نوم عميق .. وبينما الأرض تكمل دورتها حول نفسها..تزاحمت الدموع في قلبي .. وتدفق الدم الحار إلى رأسي يغلي كمرجل..فكبحت جماح نفسي, وعادت الابتسامة ترتسم علي وجهي..وأصبحت منفوشاً كالديك..واقتربت من أستاذي أهزه هزات شديدة , فنهض منزعجاً ينفض بقايا النوم من عينيه..راح يحملق في وجهي الذي تشرب بحمرة زائدة:-
*ماذا دهاك يا دكتور صفوت؟!
أجبت وكأني لم أسمعه ..وبصري معلق بحبال عرفة المباركة ..هنا يا الله وفي أرضك المقدسة ..
أشهدك بجلال وجهك الكريم بأن أخرج كل ما جمعته في سنوات الغربة ,من دولارات وريالات وجنيهات و.... أخرجه لوجهك الكريم : لو عرفت بماذا يدعو هذا الأخرس وهو معلق بأستار الكعبة في عبارته :-
(أبا..أبا..أبا...!!!) .

أيمن عبد السميع حسن حسين
مصر- سوهاج

البريد الإلكتروني : Aymen201112@yahoo.com

موضوع: رد: الطريق إلى الله 30/5/2011, 11:53 am

مشكور أيمن فقصتك هذه نقلتنا إلى ذاك الجو الروحي الجميل الذي يفيض بالمحبة والإحلاص والإيمان

موضوع: رد: الطريق إلى الله 30/5/2011, 4:45 pm

صباح الخير
الطريق إلى الله واحد، لكن وصولنا لهذا الطريق هو المتعدد والمعقد والشائك، والذي يجب ان ندفع في سبيله الكثير الكثير من فكرنا وتعبنا وراحتنا ومالنا....
جميل ما شغل الدكتور، وعميق ما قاله الأخرس.
أنا أقول مكان عبارة: أبا أبا
أمنت بك الله، أمنت بك الله
تحياتي

موضوع: رد: الطريق إلى الله 2/6/2011, 11:49 am

بداية أرحب بك في منتدانا وفي باب القصة تحديداً..الطريق إلى الله جميل عندما تكون بوصلتنا الأخلاق والمعاملة الحسنة..
ننتظر قصصك الجديدة..