حناجر
في داخله حبة قمح تنتبج حتى ضاق الداخل عليها , نمت براعمها وسلكت طريقاً عبر فتحات جسده , فخرج إلى الشارع .
لم يصدمه منظر الشبان المتظاهرين , إنما شيء اندفع من عمقه وشلَّ حركته فتوقف
نظر إلى جمهرةٍ كثيفةٍ تتوزع على الأرصفة حول المتظاهرين وقد شكَّلت طوقاً من بشرٍ متفرجين .
صار لا يرى في الشارع إلا حناجر تمشي صارخة . شعر أنه أضاع حنجرته وأشياء أخرى فخُطف إلى أيام بعيدة , عاد إلى الطفولة يوم استعاد لعبته من طفل سرقها .
مرّت سنوات طفولته المتبقية بسلام , لكنه في الجامعة دافع عن صبية تعرضت للتحرش , يومها سال دمه واحتفظ بعنفوان كرامته .
علا صوت الحناجر في الشارع فاستعاد تركيزه . وقد تحولت حبة القمح إلى قنبلةٍ معطلة الميقات , حولها وقف ماردان أحدهما دفعه دفعة قوية حتى صار بين المتظاهرين , والآخر دفعه ثانية إلى الرصيف , فوجد نفسه بين المتفرجين .
شكر الإله على عدم وجود مارد ثالث يدفعه جهة المؤيدين أصحاب العصي والحجارة .
كادت معدته تتمزّق , ورأسه ينفجر , ودارت حرب بين أجهزة جسمه كلّ يضرب الآخر , خلال لحظات استخدم بعض الوسائل لإيقاف هذه الحرب فلم يفلح . وبدأت شفتاه تتحركان لكنه لم يسمع صوته .
نظر إلى أصحاب الأرصفة , فذُهل من تشابه في وجوه الجميع الواجمة , ذات البشرة الصفراء , والعيون الغائرة , والشفاه المتمتمة دون حناجر .
نظر إلى أصحاب الحناجر الصارخة فرأى وجوهاً مغطاةً بالورود وقد وصله العبير إنهم يتنفسون , وتذكّر شوقه المزمن للأوكسجين .
بدأت عظامه بالتكسر رويداً رويداً , حتى أحسَّ أنه كائن جلدي دون عظم صلب , وأن خلايا دماغه قد مُزِجت حتى غدت كالعجين .
قال لنفسه : لكني مازلت واقفاً وأفكر , وشفتاي تتحركان بالشعارات ذاتها .
استفاق حين رأى بعض الحناجر تُسحل إلى شاحنات تعبأ فيها , وثمة بشر يضربون الحجارة على من بقي دون سحل .
بعد ساعة من تمزّقٍ وجد نفسه في بيته , زوجته وأولاده رأوه وكلموه , لكنه لم يرهم ولم يسمع أصواتهم , واستغرق في نوم كابوسي .
سوداء كالحديد كانت سماؤه , فراشه كأرض الصحراء قاسٍ , وقد التفّت وسادته حول عنقه التفاف الشوك حول جبين السيد المسيح , دارت أرضه و فُصل رأسه عن الجسد وابتعدت الروح , تمزّق , راح يبحث عن حنجرته في قاع المحيط
وصوت في الخارج جعل مفاصله تُطحن , فجلس ينتظر قدومهم .
داهموا بيته وبعنفٍ قيدوه , برباطٍ مُحكم غطّوا عينيه , ثم دفعوا به إلى شاحنه .
في السجن عذبوه بكل الوسائل القديمة والمبتدعة , وحين سمع أصوات الوجع من حجرات التعذيب المجاورة تخلّص من شلل حنجرته وصرخ بدوي : ليتكم تُبادون أيها القتلة .
حملوه عالياً ثم أسقطوه أرضا , وأعادوا حمله فصرخ : ستسقطون أيها الطغاة .
في السقطة العاشرة كان قد سقَّطهم للمرة الألف , وقد تباعدت مسننات عظامه والنبض شُلَّ صوته .
ريح قويه في الخارج أيقظته من هذيانه , وزوجته تقف ولسانها يُصدَم بمائة حجر : الأولاد خرجوا إلى الشارع .
غمره فرح غامض , قبّل زوجته , حمل حنجرته كشعلة , خرج ولم يعد بعد .