من حكايات جدّتي في أربعينية الشتاء..!!

ذهبي عدد الرسائل : 320 تاريخ التسجيل : 13/11/2008

من حكايات جدّتي في أربعينية الشتاء..!!

************************************

كلّما حلّت أربعينيّة فصل شتاء بلادي،تذكرّت جدتي (رحمها الله)،وتذكرت حكاياتها الجميلة التي كانت بنظري أجمل من قصص ألف ليلة، وليلة،وتذكرت أمثالها الشعبيّة النّابعة عن معاناةجيلها،وما استقته من تجارب الأجيال التي زادتها في العمر،و لقد كانت جدتي بالنسبة لي ولأسرتي،كجذع سنديانة ضخمة ،امتدّت جذورها في باطن الأرض حتى الأعماق،هي تاريخنا العائلي،وهي جغرافيتنا التضاريسيّة، والبيئيّة والمناخيّة،جدتي هي عين الماء المتدفقة في ربوعنا ومافيها من سهوب، وهضاب،وتلال.وهي الظلّ الظليل الذي يقينا قيظ الصيف،وقرّ الشتاء،لقد كنت بالنسبة إليها الطفل المدلّل، الذي يجب على والديه أن يحذرا من توجيه أيّ تأنيب، أو عقاب له،وإذا ما فكرا في ذلك أجد نفسي وبسرعة البرق،أختبىء وراء ظهرها، وأحتمي بها، وكأنّني أحتمي بصخرة صلبة من الصعب لأحد أن يفكر في تحطيمها، أو تفتيتها، وحضن جدتي في مثل هذه الظروف وغيرها من مرض، أو سواه،هو الملاذ الآمن، والحصن الحصين الذي يحميني من سطوة الإنسان، وغدر الزمان..!!

فإذا مامرضت وجدت الدوّاء الشافي في وصفاتها الشعبية التي كانت تطبقها لي من الأعشاب البريّة،أو من رقياتها، وتعويذاتها التي يسري مفعولها في جسدي، ويخفّف من ألمي، ويشفيني، وكأنها وصفات لقمان الحكيم..!!

وإذا ما جلست للدراسة أيام الامتحان محيياً الليالي،

جلست بجواري،تؤنسني في وحدتي،وتبعد عن عيوني شبح النوم، والضجر .

إنّ جدتي وباختصار شديد،هي حياتي، وملاذي،

وطبيبي،ومؤنسي،وهي نسمة الهواء التي أستنشقها كلّما شعرت أنّني مخنوق، أو مغمى عليّ..!!

وللشتاء مع جدتي قصص، وحكايات، وأمثال كما ذكرت..!!ومهما نسيت من ذكرياتي معها،فإنّني لاأنسى مشهد جلوسنا حول الموقد،أو منقل النّار،وكلاهما يتغذيان بالحطب،وكان آنذاك من حطب البلعاس ،ذي النكهة البرية الذكيّة،بينما جدّتي جلست إلينا تروي لنا حكاية(ليلى والذئب)أو (عنزة العنوزية أمّ قرون الحدّية)،التي حمت أولادها من الذئب الغدار،أو حكاية (الرّاعي الكذاب)،الذي وقع في النّهاية وأوقع أهل قريته في شرور كذبه,ومن حكاياتها التاريخية التي لاننساها حكاية أبو زيد الهلالي،ودياب ابن غانم،التي كانت تسمعهما من الرّواة، الذين كان يسمعهم جدي في المضافة،ثم يعيد سردها على مسامعها، فتحفظها منه كما يرويها لها.و شريط مسلسل حكاياتها ،يتكرّر في كلّ يوم،ولكن كنّا لانشعر بالملل، أوالضجر،بل بالعكس كنّا نشعر، وكأنّنا نسمعه من فمها لأوّل مرّة،

ومن أمثالها الشتوية السائرة:

ــ (خبّي جمراتك الكبار لعمّك آذار..)، وأيضاً:
ــ(إذا ضبضبت من باكر، احمل عصاتك وسافر،وإذا ضبضبت من عشيّة، نقيلك قرنة دافية..) ،ومنها:

ــ (شباط لايخبىء شمسه..)، ومنها:

ــ(شباط ليس على كلامه رباط..)، ومنها:
ــ(سعد السعود سلاخ الجلود..)،ومنها:
ـــ ( في سعد السعود ،تدبّ *الماوية* بالعود،ويدفى كلّ مبرود)..وغيرها من الأمثال التي تعتبر من الموروث الشعبي الأصيل في هذه الأيام.

واليوم..أرجو من كلّ قارىء سمع، أو رويت له قصص، أو أمثال عن جدّته، تتعلّق بأنواء وطقوس أربعينيّة فصل الشتاء،أن يضيفها على مشاركتي المتواضعة،لعلّنا نجمع بعضاً من هذه الكنوز التراثيّة التي نطق بها أجدادنا، نتيجة خبرتهم وتجاربهم،وعاشوا لحظاتها المرّة، والحلوة،وعبّروا بكلّ مشاعر الصدق والشفافية عن تلك المراحل الزمنيّة التي أصبحت بالنسبة لنا كنزا تراثياً من الموروث الاجتماعي الشعبي الذي يجب علينا الحفاظ عليه،ويجب تدوينه، وتوثيقه..!!

وفقكم الله إلى مافيه خير العمل، والبحث لجمع كنوز الموروث عن الآباء، والأجداد.

ورحم الله أجدادكم، إن كانوا قد غادروا دار الفناء إلى دار البقاء،وأمدّهم بالصحة والعافية إن كانوا مايزالون من عداد الأحياء.

******************************************

*الماوية*:جاء في تفسيرها، في معجم (تهذيب اللغة):

الماوية: المرأة، أصلها مائية، فقبلت المدة واوا؛ كما يقال: شاوي...وقيل "الماوية" بتشديد الياء، هي المرأة، نسبت إلى الماء، لصفتها، وأن الصور ترى فيها،كما ترى في الماء الصافي، والميم أصليّة فيها.

حيدر حيدر

/13/1/2012

جدتك.. جدتي.. جده.. كل هؤلاء الطاعنون في السن.. الطاعنون في المعرفة والحكمة الجميلة..هم ذاكرتنا، ذاكرة التاريخ..
تحية لهم جميعاً، وتحية لك أيضاً أستاذ حيدر

عندما كنت صغيراً كانت حكايا جدتي -التي ذكرت أغلبها أستاذ حيدر-تدفئنا وتسلينا في عتمة الشتاء..

كل التحية لك أبو محمود

ذهبي عدد الرسائل : 320 تاريخ التسجيل : 13/11/2008

شكرا أيّها الصديق فادي على مرورك بموضوعي، وشكرا لكلّ الحبّ الذي تشعربه نحو جدتك..وتحية لكلّ الذكريات التي تربطنا بهم،لأنّها كرائحة الخزامى في صحراء تشدنا إلى جذورنا وأنسابنا التي نعتز بها لامن باب التعصب حتما،ولكن من باب الاعتزاز الذي تشير إليه تلك الذكريات التي نحنّ ونشتاق إليها كلّما ذكرتنا أنواء الطبيعة بها..أتمنى لجدتك الصحة إن كانت على قيد الحياة،والرحمة إن غادرت دار الفناء إلى دار البقاء.

حيدر حيدر

2012/1/18/