كم أنا
نظر هناك حيث سنينه على رفوف الخشب القديمة ترسم عشوائية حياته، وشعره الأشعث يرصد كل الجهات، أما تضاريس وجهه العابس، فمتاهة الأحداث الستين أشعلتها أخاديد تأبى الرحيل.
تناول كأس الشاي -الذي لم يرتشفه يوماً بحرارته- كان يمتص منه فتور أحلامه وبرودة أوصاله.
وقضاياه التي كانت يوماً سبباً في وجوده، تلك العناوين الواخذة في مكتبته /أحلامي لا تعرف حدوداً، ساخون وطني،../ تتكدَّس الآن بعضها عطبٌ وبعضها الآخر أكلت الصفرة من كلماته.
رأى شيئاً أوسع حدقة عينيه الكهلتين، كان دفتراً بنياً صغيراً، لم يتعرَّف عليه:
- من وضع هذا بين أشيائي، يا لكم من سَفلة!
-أين أنتم؟! (حتى صداه كان مبحوحاً)
-أيها الأوغاد!!(مخرجاً زفيراه قبل اختناقه)
تذكَر بعد حين أنهم كبروا، فالأصغر الآن يؤدي خدمة العلم، أما الأكبر فقد نسي صوته وعمله، مع أنه -والحق يقال- يكلِّمه كل شهرين مرة، في تلك الآلة اللعينة (الهاتف): ثانيةٌ للسؤال عن صحته والدواء، وقبل انتظار الإجابة، ثانيةٌ أخرى للانتباه على نفسه، ثم أخيرة ليقول لوالده أنه مشغول، ودون خاتمة -كالعادة- يُبترُ الحديث (طن..طن..).
وابنته تلك التي عاشت بين كلماته ومضغت أفكاره وعشقتها، تزوجت، وعادت كغيرها، لديها طفل ووظيفة. كلما جاءت تتفقد والدها وتعيد ترتيب وتنظيف المنزل من حوله، كان يأمل أن يوقظه صوتها القديم حين كان يسألها عن حالها، فتقول: (أنا ملكة أنا عظيمة كعادتي)، اما الآن فيغمد جوابها عواء البؤس في صدره: (عايشين).
رباه، كم يشتاق زوجته، تلك التي لم تفهمه يوماً، لكنها لو بقيت لكان فهمها هو الآن، لكانت قتلت تلك الوحدة الملتصقة من حوله.
تذكّر ما يمسك بيده، عاد إليه يتفحّصه، كان دفتراً لمواعيد دواءه.
قضى كل سنينه هنا لم يسأم، لم الآن؟!
كبس آلة التسجيل: (أولادكم ليسوا لكم أولادكم أبناء الحياة..!)
أحسَّ بعروقه تتكلم، أمسك القلم، نظر إلى صورته الضبابية من خلاله، كتب: (كم أنا..)
نفض الدم القلم بعيداً ونفث كرياته في كل مكان.
كانت جنازته الأبسط، صندوق خشبي وبنت وحفيد وعسكري حليق وسيارة ابنه الفخمة..
بعد الأربعين، جمعوا بقايا هذا العجوز، نالوا من معظمها..
غابت بقايا انفاسه عن مسامات الجدران، ما عدا، آثاراً كان حفرها القلم على طاولته: (كم أنا..)
كثيرون أكملوها.. (بائس، حزين، وحيد، متألم،..إلخ) من مفردات البشر العاديين، وبحكم تفرُّده .. بقيت كلها لا تملأ الفراغ..
إينانة الصالح